الأربعاء، 7 أكتوبر 2009

مدخل في النظم الاسلامية

مدخل في النظم الإسلامية
مفهوم النظم وأهميتها وحاجة الناس إلى النظم والتشريع
‌أ- معنى النظام في اللغة:
يقال: نظم اللؤلؤ، ينظمه، ونظَّمه نظاماً ونظماً ونظَّمه؛ بمعنى: ألفه وجمعه في سلك واحد فانتظم وتنظَّم.
والنظام: كل خيط نظم به لؤلؤ ونحوه، ويطلق على العقد من الجوهر والخرز ونحوهما، وجمعه، نظم.
وتطلق أنظمه، و أناظيم، ونظم: على السيرة والهدي والعادة، ونظام الأمر: أي قوامه وعماده، والنظام: الطريقة؛ يقال ما زال على نظام واحد، والانتظام: الاتساق.
وخلاصة معنى النظام في اللغة ومادته: أنَّه يدل على التأليف والجمع والترتيب والتنسيق، وقد ينقل من الأمور المحسوسة إلى المعنويات؛ فيقال: نظم المعاني بمعنى رتبها وجعلها متناسقة العلاقات، متناسبة الدلالات على وفق ما يقتضيه العقل.
‌ب- تعريف النظام في الاصطلاح وأنواع النظم إجمالاً:
مما ورد في تعريف النظام في الاصطلاح القول بأنه: "مجموعة المبادئ، والتشريعات، والأعراف، وغير ذلك من الأمور التي تقوم عليها حياة الفرد، وحياة المجتمع، وحياة الدولة، و بها تنظم أمورها". ولعل هذا التعريف على إجماله يلم بدلالات النظام وبجوانبه المتعددة.
وقد يطلق النظام ويراد به معنى عاما فيكون: "أحد مفاهيم العقل الأساسية، ويشمل الترتيب الزماني، والترتيب المكاني، والترتيب العددي، والسلاسل، والعلل، والقوانين، والغايات، والأجناس، والأنواع، والأحوال الاجتماعية، والقيم الأخلاقية والجماعية".
وتحت هذا المعنى العام يكون النظام في المنطق الرياضي، والنظام الطبيعي، والنظام الاجتماعي، والنظام الأخلاقي.
وقد يطلق النظام ويراد به معنى خاصاً فيقال: نظام العمال، ونظام المحامين، ونحوهما ويطلق على جميع هذه الأنظمة (نُظُم).
‌ج- مفهوم النظام الإسلامي وصلته بمسمى (الشريعة):
عرَّف بعض المؤلفين النظام الإسلامي بقوله: "هو الأحكام والقواعد التي شرعها الله سبحانه لتنظيم أعمال الناس، وعلاقاتهم المتعددة، والمتنوعة، المنبثقة عن العقيدة الإسلامية؛ فقواعد الإسلام وأحكامه في السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والقضاء، والعقوبات، وغيرها من القواعد والأحكام التي تنظم الحياة الخاصة والعامة تشكل بمجموعها وتفاعلها، وتناسقها وترابطها النظام الإسلامي.
وعرَّف مؤلف آخر النظم الإسلامية بأنَّها: "النظم التي شرعها الله، أو شرع أصولها؛ ليأخذ الإنسانُ بها نفسه في علاقته بربه، وعلاقته بأخيه الإنسان، علاقته بالكون، وعلاقته بالحياة".
وعلى هذا فالنظام الإسلامي أو النُظُم الإسلامية تندرج في الشريعة الإسلامية، ولا سيما أنَّ علماء القانون يطلقون مسمى (الشريعة) على جملة الأنظمة والقوانين إذا اتصفت بالانسجام العام في مجموعها، وانتظمها سياقُ واحد لانبعاثها عن روح واحدة ، وهذا لا يتأتى إلا في الشريعة الإسلامية لانبثاقها عن العقيدة الإسلامية وانسجامها مع فطرة الكون وطبيعة الإنسان وسنن الحياة يقال: (هذه شرعة هذه أي مثلها).
أمَّا إذا كان القانون أو النظام يتكون من مجموعة قواعد وأحكام حول ظاهرة واحدة، أو جانب من جوانب الحياة فقط فإنَّهم يطلقون عليه (النظام القانوني).
كما أنَّ الشريعة الإسلامية "جامعة لكل ولاية وعمل فيه صلاح الدين والدنيا، والشريعة إنَّما هي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه سلف الأمَّة في العقائد، والأحوال، والعبادات، والأعمال، والسياسات، والأحكام و العطيات" وهذا يعني أنَّ جميع النظم التي يحتاجها الفرد ويحتاجها المجتمع وتحتاجها الدولة والأُمَّة تكفلها الشريعة الإسلامية.
‌د- تعريفات النظم لدى بعض علماء الاجتماع ونقدها:
وردت تعريفات كثيرة للنظام والنظم لدى علماء الاجتماع وتعددت مدارسهم الفكرية المهتمة بدراسة النظم وقد جاء معظم تلك التعريفات ببعض معاني النظام والنظم، كقولهم الثابت والمقرر والطريقة والمعيار والعادة والعرف والقانون والقاعدة ونحو ذلك.
ومَّما يلحظ على بعض علماء الاجتماع أنهم حين يخوضون في تعريف النظم ونشأتها يقتصرون على النظم التي وضعها البشر، ويغفلون ما جاء به الوحي الإلهي، وقد يدرج بعضهم الدين ضمن النظم البشرية باعتبار أنَّه من وضع البشر وأنَّهم إختلقوه لأنفسهم لسبب أو آخر؛ وللمثال على ذلك ما ذُكر في قاموس علم الاجتماع ص248 ونصه: "وللنُظُم وجوه متعددة، وهي لذلك يمكن أن تناقش من وجهات نظر متعددة، فبعض هذه النظم أصبح موضوعه دراسة واسعة ومركزة، الأمر الذي تبدو معه على أنَّها علوم منفصلة، ومثال ذلك: "أنَّ النظم الاقتصادية أصبحت اليوم موضوع علم الاقتصاد، والنظم السياسية موضوع علم السياسة، وهناك نظم أُخرى تنال – الآن – اهتماماً كبيراً، وتجري بصددها دراساتُ مستفيضة؛ مثل الأسرة، والدين، ولكنهما لا يزالون من فروع علم الاجتماع والانثروبولوجيا".
فهذا النص يدرج الدين ضمن علم الاجتماع والانثروبولوجيا ولا يأخذ في الاعتبار مصدره الإلهي وإذا كان علماء الاجتماع القائلون بذلك قد وقعوا في هذا الخطأ العلمي الكبير بتأثير من بيئاتهم التي عاشوا فيها وقد حُرِّفت فيها الأديان حتى عزلت أو فصلت عن الحياة وأصبحت من صنع البشر أكثر من كونها ربانية المصدر فإنَّ البيئات التي عرفت صفاء الوحي ونقاءه في الإسلام لا يليق بها أن تسلم بذلك ولا أن تقلدهم فيه بل ينبغي إظهار تميز الإسلام في مجال النظم وأنَّه يشتمل على جميع النظم التي يحتاجها الفرد والمجتمع والأُمَّة وأنَّها ربانَّية المصدر.
هـ - خلاصة القول:
أنَّ النظم تتنوع من حيث مصدرها – كما قال شيخ الإسلام -: "على ثلاثة أنحاء: شرع منزل وهو شرع الله ورسوله، وشرع متأول، وهو: ما ساغ فيه الاجتهاد، وشرع مبدل؛ وهو: ما كان من الكذب والفجور الذي يفعله المبطلون بظاهر الشرع أو البدع أو الضلال الذي يضيفه الضالون إلى الشرع. مجموع الفتاوى [ جزء 19 - صفحة 309 ]
ثمَّ إنَّ التقيد بشريعة الإسلام ملزم للفرد والمجتمع والأمَّة وعن ذلك قال شيخ الإسلام أيضاً: "وليس للإنسان أن يخرج عن الشريعة في شيء من أموره، بل كل ما يصلح له فهو الشرع من أصوله وفروعه وأحواله وأعماله، وسياسته ومعاملاته، وغير ذلك.. وسبب ذلك أن الشريعة هي طاعة الله ورسوله وأولي الأمر منا".
أهمية دراسة النظم الإسلامية
إن مقررات ومناهج الثقافة الإسلامية ومن بينها ( النظم الإسلامية ) تعد من الأساسيات اللازمة لتكوين الشخصية المسلمة في هذا العصر، بما تتضمنه من أهداف سامية ، تنطلق من رسالة الإسلام العظيمة ، وتتمثل فيما يلي :
1- إيضاح مبادئ الإسلام ، ومفاهيمه ، وقيمه ، وأخلاقه ، وأحكامه ، ونظمه بأسلوب علمي شمولي مناسب ، يؤدي إلى تحصين الاعتقاد الصحيح في مواجهة التيارات الفكرية الغازية وبث روح الاعتزاز بالإسلام وأمجاد أمته ، والثقة بسمو رسالته ، وتفرد حضارته
2-الإسهام في تجلية موقف الإسلام من قضايا العصر ، وبخاصة في مجالات العلوم المختلفة ، وحركة الفكر ، ونظم الحياة ، وقيمها ، والتوجيه العلمي لتحقيق مهمة القيام بوصل العلوم التجريبية الحديثة ، والإنسانية ، بجهود الأسلاف في تلك الميادين نفسها .
3-إعطاء صورة وافية عما صنعته رسالة الإسلام العامة الشاملة في الحياة الإنسانية من تحريرها البشر من الوثنيات والخرافات ، وإنقاذهم من التخلف الفكري والتفكك الاجتماعي ، والجدب الحضاري ، ومن نصرتها على الصعيد العالمي لكل القيم الفاضلة من الحق والخير والعدل والمساواة والسلام ، ومن دعوتها لالتزام المنهج العلمي في اكتساب المعارف ، وتوجيه الطاقات والمهارات نحو نفع الإنسان وخيره ومن بنائها الشامخ لأجلِّ حضارة وأوفاها وأبعدها أثرا في نهضة الإنسان وتقدمه في كل مجال ومكان .
4- دفع الشبهات المثارة حول العقيدة والشريعة التي يثيرها المخالفون ، بالحجة والبرهان ، مما يساهم في تحصين المتعلمين تجاه تلك الشبهات .
الشبهات .

حاجة الناس إلى النظم والتشريع
الكائن الإنساني مدني بطبعه لا بد له من الاجتماع مع بني جنسه، ولذا قيل: الإنسان مدني بالطبع، إذ لا يتم للإنسان تحقيق حاجاته ومتطلباته المادية والنفسية إلا في ظل مجتمع من بني جنسه، فطعامه وشرابه ومسكنه، كل ذلك لا يمكن أن يقوم به وحده.. فقد لا يستطيع أن يكون مزارعاً وخبازاً وحداداً وحائكاً ومعلماً وغير ذلك في وقت واحد، فكان من تدبير الله عز وجل للخلق أن سخر بعضهم لبعض وجعل بعضهم في خدمة البعض كما قال سبحانه وتعالى: { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (الزخرف:32) . قال بعض المفسرين: أي ليرتفق بعضكم بعمل بعض وينتفع بعمله. ولا تحصل هذه المنفعة وهذا التسخير إلا بالاجتماع، فإذا اجتمع الناس حدث بينهم الاختلاف والتنازع والتجاذب لما رُكِّب في طبائعهم من حب الخير لأنفسهم واستئثار بعضهم عن بعض بالمنافع، فكان لابد من وازع يزجرهم عن التنازع والتكالب والتخاصم ويفصل بينهم ويبين لكل فرد حدوده وحقوقه وواجباته، فلا يطغى بعضهم على بعض ولا يبغي أحد على أحد.
والوازع المقصود هو النظم والتشريعات التي بموجبها يعرف كل فرد حقوقه وحقوق الآخرين فلا يعتدي عليها، ولا بد أيضاً من وجود سلطة تقوم بفرض النظم وإلزام الناس بها ومعاقبة الخارج عليها، وقد تعاهد الخالق العظيم عباده بالتشريعات المناسبة لهم في كل رسالة من الرسالات السماوية، وختم تلك الشرائع بشريعة سيدنا محمد عليه السلام.
أهمية النظام في الكون والحياة:
يمثل النظام في الكون والحياة ضرورة لا يمكن أن تستقيم الحياة بدونها، وقد تكرر الكلام عن آفاق الكون ومشاهد الطبيعة في القرآن الكريم تكراراً يلفت النظر، وأكثر سور القرآن تستعرض الكون بآفاقه الواسعة وأنواعه الكثيرة، وأقسامه المتعددة، وحركته الدائبة وحوادثه المتكررة، وأنَّه محكوم بنظام بالغ الدقة، ويجري وفق سنن مطردة، وحوادثه السابقة واللاحقة تأتي وفقاً لإرادة الله الأزلِّية، ولا يشذ عنها حادثة من الحوادث لا في الزمان ولا في المكان.. كما إنَّ التطور الذي يتم في الكون منضبط بنظام متقن متكامل.. متناسق مع نظام الحياة في غاية الإبداع.. فكل شيء في الحياة والكون مقدر وموزون ومحسوب، قال تعالى: { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } (القمر:49)
والسمة البارزة في عرض القرآن لموجودات الكون، أو ملكوت السموات والأرض، هي أن تعرض عرضا متنوعاً يدعو الإنسان بإلحاح وتحفيز للنظر والتأمل والتفكير في مجرى حوادثها، والدعوة إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، قال تعالى:[ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ] (فصلت:37)
ويدخل الإنسان ضمن مخلوقا تالله بدءاً ونهاية فدراً وجماعة وأُمّة بل وأمماً في منظومة الوجود ونواميسه وعلله وأسبابه ومسبباته، فالكل خاضع لله، ويتحرك في نظام سنة الله { كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ }(البقرة: من الآية116)
ورد في سورة (يس) ما يبين أهمية النظام، وأن الكون والحياة تسير وفق نظام في غاية الدقة والإعجاز، قال تعالى: (وءاية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون، والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم، والقمر قدرنه منازل حتى عاد كالعرجون القديم، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون).
كذلك الإنسان وهو ذلك المخلوق المكرم الذي استخلفه الله – جل وعلا – في الأرض وسخر له الكثير من ملكوت السموات والأرض ليحقق الرسالة التي أنيطت به، وليسير نحو الغاية التي خلق من أجلها: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ}(الذريات:56) فإنَّ هذه الرسالة وذلك التكليف لا يتأتي والغاية لا تتحقق في ضوء نظام يحدد مساره، وينظم علائقه، ويضبط أوضاعه، ويحل مسائله وقضاياه، وإلا سادت الفوضى وعمت الجهالة.
وقد استفاضت الآيات الكريمة في عرض قصة آدم عليه السلام، بما يبين أهمية النظام للإنسان وأنه لا يُمكن أن يجد النظام الملائم لفطرته والمتسق مع غايته والكفيل بإسعاده في الحياة الدنيا والآخرة إلا فيما جاء عن الله من الهدى، قال تعالى: ﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تضمأ فيها ولا تضحى فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليها من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى﴾.
ويرى بعض المهتمين بدراسة التاريخ البشري ودراسة علم الاجتماع والنفس والتربية، وكذلك النظم والتشريعات أن البشر قادرون على وضع التشريعات والنظم لقيام حياتهم وتحقيق وجودهم الإنساني المتميز، وينيطون ذلك بما وهبه الله للإنسان من عقل قادرٍ على عمل ذلك.
ومهما كانت المسوغات والمبررات لهذا الرأي فإنَّ نهاية التحليل تصل إلى حقيقة مستقرة ومسلَّمة نهائية جوهرها ولبها أن العقل البشري المجرد عن هداية الله وغير المتصل بوحيه تعالى إلى رسله لا يتأتى له ذلك بصفة شاملة كاملة مرتبطة بغاية وجود الإنسان ومتسقة مع حقائق الوجود، بل يقصر عن ذلك، وبيان أوجه قصوره في النقطة الآتية.
قصور العقل البشري عن التشريع
للعقل منزلة عظيمة، وبه يتميز الإنسان عن كثير من مخلوقات الله, وقد أولى الإسلام العقل اهتماماً بالغاً وعناية كبيرة، وجاء في آيات كثيرة تنويه الإسلام بالعقل كقوله تعالى: (أفلا تعقلون)، وقوله: (أفلا يعقلون) ونحوهما، فالعقل في الإسلام وسيلة إلى الإيمان، وهو مناطق التكليف، وبه يفهم الشرع وتكاليفه وأحكامه، وله مجالاته الواسعة وآفاقه العريضة التي سخرها الله للإنسان، ولكنه محدود بحدود طبيعية ومقيد بضوابط كثيرة، وإذا كانت له مجالات واسعة يمكنه أ، يبدع في مضمارها، وله طرائقه المنطقية الصحيحة في كثير من قضايا الحياة وميادين الفكر فإنه غير قادر على تشريع نظام كامل شامل يكفل سعادة الإنسان ويحقق غاياته العليا في الحياة والوجود إلاّ إذا أعمل في ضوء الوحي وبهديه؛ وذلك لأوجه القصور الملازمة له وأهمها:
أولاً: قصوره من ناحية الزمن، فالإنسان مهما نضج عقله، وبلغ من القوة منتهاها في إطاره الإنساني إلا أنه محدود بحدود زمنية وأخرى مكانية، لا يستطيع عقله تجاوزاه أيا كانت عبقريته، أما الحدود الزمانية فعلى افتراض أن الإنسان علم بحاضره الذي يعيش فيه، وعلم شيئاً عن الماضي بالدارسة والإطلاع فإنه لا يستطيع أن يدعي علم المستقبل، ومن الاستحالة على عقله علم ذلك، لهذا فإنَّ النظام الذي تصدى لوضع وتشريعه لو صلح على سبيل الافتراض فسيكون صلاحه في إطار فترة زمنية محدودة، ويكفي هذا الوجه من قصور العقل من الناحية الزمنية قادحاً في النظام الذي صدر عن عقل الإنسان؛ لأنه سيكون عرضة للجمود وعدم الصلاحية بمجرد مرور الزمن، فالغد يأتي بما لم يحط المنظر بعلمه، وعندئذٍ يكون التغيير أمراً لا مفرَّ منه، وقد يكون تغييراً شاملاً ومع التغيير المستمر يصبح النظام غير قادر على توفير الاستقرار والأمن النفسي للمجتمع لما يعتريه من التقلب المستمر والتضارب والتناقض؛ لأنه خضع لإطارٍ زمني ضيق.
إنَّ هذا القصور سمة لازمة للنظم البشرية، مِمَّا جعل الطريق غير مأمون على المجتمعات البشرية في ظل تنظيمها لنفسها.
ثانياً: قصور العقل البشري من الناحية المكانية حيث إنَّ عقل الإنسان محدود بالمكان الذي يعيش فيه، والبيئة التي خضع لمؤثراتها بصفة مباشرة أو غير مباشرة، وما يؤدي إليه ذلك من محدودية العقل وتركيزه على بيئته وجهله بالبيئات الأخرى. فإذا تصدى العقل البشري للتنظيم والتشريع فإنَّ ما ينتج عنه لو صلح – افتراضاً – لبيئة لن يصلح لغيرها...، وعلى هذا لن تتحقق الوحدة المتوخاه في النظم تلك الوحدة التي تعد أساساً في الشريعة؛ لأن البشرية متحدة في أصولها وفطرتها وغايتها، وإن تباعدت الأوطان واختلفت الألوان والألسنة والشعوب والقبائل، والوحدة مطلوبة لتعيش المجتمعات البشرية في سلام ووئام.
ثالثاً: قصور العقل البشري من حيث الإلمام بجميع الأطراف التي يتصدى لتنظيمها، وطبيعة من ينظم لهم، وتحقيق التوازن في ذلك كله؛ فالميل إلى طرف من الأطراف هي السمَّة الظاهرة على الفكر البشري، أو التركيز على جهة من الجهات، أو فكرة أو نزعة.. ونحو ذلك، استجابة لتأثير البيئة على المفكر، وتأثير النزعة التي تربَّى عليها، فمن ربيَّ على نزعة مادية تطرف إليها وصار نحوها، ومن ربيَّ على نزعة خياليَّة جنح إليها، وقد يميل المفكر إلى نزعة فردية ضد الجماعة، أو على حسابها، وقد يميل آخر إلى نزعة جماعية ضد مصلحة الفرد، لذلك فإنَّ ما يصدر عن الإنسان من نظام سيصطبغ بصبغة ذلك الإنسان نفسه، ويكون انعكاساً لنزعاته وأهوائه وميوله.
وقد ألمح ابن خلدون إلى ذلك حينما تحدَّث عن الملكات وذكر: (أنَّ من أحكم ملكه وأجادها ورسخت في نفسه لا يستطيع أن يجيد ملكه أخرى ويحكمها)، أي إن الإنسان لا يستطيع تحقيق التوازن وبلوغ درجة الإبداع حينما يتصدى للتنظيم، وهذا القصور لدى الإنسان يفرض عليه الميل في التفكير إلى فكرة يبدو له بريقها ثم لا يجيد الوصول إليها، وعندئذ يختل التوازن في النظم البشرية، ولعل (مدينة أفلاطون) إحدى النماذج الدَّالة على قصور العقل البشري، إذ أراد الخير لمجتمعه وشرع في التنظير له، ولكن بحكم قصور العقل البشري ومحدودية تفكيره أفرز نظاماً مدمراً حيث اشتمل نظامه ذلك على أن يقتل الأولاد الذين يولدون لآباء شريرين حتى يقضي على الشر في مجتمع الفاضل أو مدينته الفاضلة، وكان هذا النظام متأثراً بعقيدة باطلة تشربها (أفلاطون) من بيئته التي تعتقد بتوارث الشر، فترسبت هذه العقيدة في سويداء قلبه ومال إليها تفكيره، وتلونت بها شخصيته، وبالتالي دبَّت في نظامه فجاء نظاماً جائراً وتشريعاً ظالما، وكان من الممكن أن ينجو الفكر البشري من هذه دبَّت في نظامه فجاء نظاماً جائراً وتشريعاً ظالما، وكان من الممكن أن ينجو الفكر البشر من هذه الأفكار الخاطئة والنظم الجائرة لو اهتدى بنور الوحي فالله تعالى يقول: (ولا تزروا وازرة وزر أخرى).
ونزعة أخرى ظهرت في نظام (أفلاطون) بحكم اعتماده على عقله بعيداً عن هداية الوحي، فقد تطرَّف نظامه إلى النزعة الجماعية على حساب الفرد، وكان يرى (أنَّ وجود أي منفعة شخصية لفرد يهدم منفعة المجموع، ولذا يجب أن تنهار المصالح الفرديَّة ويقضى عليها... بحيث لا يجوز أن يكون لأي فرد في الأُمَّة منفعة شخصية تتميز عن منفعة مجموعها).
إنَّ (أفلاطون) أنموذجٌ من النماذج البشرية التي حاولت أن تنظم لمجتمعها استناداً على العقل البشري مستقلاً عن وحي الله فكان هذا التطرف الذي لم يستطع تحقيق التوازن بين المادَّية والروحَّية، ولا بين نزعة الفرد ومصلحة الجماعة، ولا بيت الواقع والخيال.
رابعاً: جهل الإنسان بحقيقته، إذا كان الإنسان الذي هو موضوع التنظيم، أو الأساس في التنظيم لا يزال مجهولاً عند نفسه فكيف يضع النظام الذي يكفل المحافظة على ضروراته ويلبي حاجاته ومتطلبات حياته بصفة شمولية متوازنة؟!، وكيف يؤمل فيه أن يكون مصيباً فيما يُشرع من نظام بمنأى عن الوحي الرباني الذي يصله بخالقه – عز وجل -.
إنَّ جهل الإنسان بحقيقة نفسه وطبيعة حاله حقيقة قررها العلماء المعنيون بدراسة الإنسان، وعلى سبيل المثال فإنَّ (الكسيس كاريل) وهو عالم مختص في مجال دراسة الإنسان، ألف كتاباً أسماه (الإنسان ذلك المجهول) أبان فيه أن الإنسان لا يفهم نفسه ككل، وهذا واضح في قوله: (لقد بذل الجنس البشري مجهوداً جباراً لكي يعرف نفسه، ولكن وعلى الرغم من أننا نملك كنزاً من الملاحظة التي كدسها العلماء والفلاسفة والشعراء وكبار العلماء الروحانيين في جميع الأزمان، فإننا استطعنا أن نفهم جوانب معينة – فقط – من أنفسنا... إننا لا نفهم الإنسان ككل).
ويواصل حديثه مبيناً أنَّ هناك قصوراً كبيراً في فهم الإنسان لطبيعته وأعماق نفسه، فيقول: (إننا نعرفه – أي الإنسان – على أنه مكون من مركب من الأشباح تسير في وسطها حقيقة مجهولة) ويؤكد فيما ذكر بأنِّ معرفة الإنسان بنفسه ما زالت بدائية.
إنَّ جهل الإنسان بنفسه كان السبب الأساسي في اختلاف النظرات إليه وتعدد مدارسها التي خبطت في قضاياه خيط عشواء، ففي حين ينظر إليه من خلال بعض تلك النظريات ومدارسها بأنّه إله وأنه سيد الكون، ينظر إليه من خلال جانبه المادي ويصنف في منزلة تقترب من منزلة الحيوانات..، وذاق الإنسان في ضوء هذه النظريات المتعارضة المتناقضة صنوفاً من المرارة، وأصبح الإنسان في العصر الحديث يعيش في أزمة طاحنة، تحدث عنها كثيرٌ من المفكرين وصرحوا بها في كتابات متنوعة، منها على سبيل المثال: ما ذكره (تشارلز فريكل) في قوله: (على الرغم مما حققه العصر الحديث من معجزات العلم والتكنولوجيا، إلا أن الثورة على الإنسان المعاصر الذي سيطر بعقله وعمله على الكون بدأت تشتد وتقوى، إذ أنه على الرغم من كل ذلك لم يحصل على السعادة ولا الطمأنينة، وما زالت قيمه في تخبط ووجوده مهدداً بالقلق).
جاءت هذه الأزمة التي تحدَّث عنها (تشارلز) وغيره من العلماء والمفكرين نتيجة طبيعية لاعتداء الإنسان بنفسه واعتماده على العقل فيما شرع لحياته من نظام لا يفي بمتطلبات الناس بصفة تكفل لهم السعادة المنشودة وتنسجم مع غاياتهم العليا ومنطلقاتهم الحقيقية لذلك أصبحت حياة الإنسان، وفي ظل تلك النظم متأزمة، وتحقق فيها قول الله – عزَّ وجلَّ - :(ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى).
لمحة موجزة عن حال الأمم في ظل بعض النظم البشرية
تعجز تشريعات البشر ونظمهم عن إسعاد الإنسان وتحقيق غايات وجوده ونشاطه الحضاري الشامل إذا انقطعت عن وحي الله و هدايته سواء في القديم أو الحديث.
أمَّا في القديم فهناك ثلاثة أمثلة تبين بجلاء أن الأمم في ظل النظم التي وضعتها عقول البشر لم تجن إلا الفوضى والقلق والاضطراب والظلم والجور:
الأول: النظام الروماني، فقد كان للمجتمع الروماني قانون منظم يوصف بأنه متقن في الصياغة والسيادة، وذلك في القرن الخامس الميلادي وهو المشهور باسم (مدونة جوستينان)، فماذا قدم هذا القانون للمجتمع الروماني ؟
لقد حمى الأشراف وقرر لهم حقوقاً ليست للضعفاء، وممّا قرره الآتي:
- إنَّ بعض الرعايا ممن ليسوا روماناً بالسلالة ليست لهم حقوق الرومان فهم كالعبيد يعملون لأجل الرومان، ولتشبع بطونهم.
- إنَّ العبيد لا يعاملون معاملة الآدميين.
- ليست للمرأة شخصية مستقلة بل هي في حكم المملوكة للرجل أباً كان أم زوجاً.
- تجميع الميراث في قريب واحد ويحرم منه الباقون.
فهذا النظام ليس مقتصراً على إنه طبقي فحسب بل يسلب حقوق الضعفاء ليزدادوا ضعفاً، ويعطيها الأقوياء ليزدادوا قوة على قوتهم.
الثاني: النظام الفارسي، ارتكز هذا النظام على دعوة دينية تعتمد تعاليم (زرادشت) وهي القول بتعدد الآلهة، أو إله الخير وإله الشر، وما انبنى على هذه العقيدة الفاسدة من الشريكات والتصورات الباطلة، كان من أبرزها دعوة (ماني) إلى التشاؤم المطلق، فقد دعا إلى فناء الإنسانية ليتخلص العالم من شرورهم، ثم أعقبه (مزدك) فزعن أن آثار المباغضة والعداوة المستمرة بين الناس، إنما تقع بسبب الأموال والنساء، فدعا إلى شيوعية الأموال والنساء حتى صار الرجل لا يعرف والده، ولا المولود يعرف أباه، ولا يملك شيئاً، فانهار المجتمع الفارسي بهذه الفوضى العارمة.
الثالث: الأعراف الجاهلية أو النظام الجاهلي في الجزيرة العربية :
لم يكن العرب أسعد حالاً قبل الإسلام من غيرهم، ولم يكن لهم نظام جامع ولا وحدة تضمن شتات قبائلهم، وإن كانت القبيلة تخضع لكبير منها يفضل في النزاع الناشب بين أفرادها ونحو ذلك، وكان لهم جملة من الصفات الحميدة ومكارم الأخلاق، ولكن كانت العلاقات بين الناس يسودها الظلم والجهل والتفكك والثارات القبلية، والتبيعة للأمم الأخرى المجاورة لهم من فرس وروم، وكانت عصبية الجاهلية تسطير على المشاعر والمواقف، يقول الشاعر العربي:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه

يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
ويقول الآخر:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت

غويت، وإن ترشد غُزَّية أرشد
ولمَّا جاء الإسلام نهض العرب برسالة الإسلام فأصبحوا قادة العالم وأعلام الهداية، وجنود الحق والتوحيد، في ظل شريعة الإسلام الخالدة التي قام عليها تميز الأمة الإسلامية.
رابعاً: حال المجتمعات الغربية غير الإسلامية :أمَّا حال المجتمعات والأمم غير الإسلامية في العصر الحديث، تلك التي اعتمدت على العقل وتنكرت للدين وأهميته في سعادة الإنسان فإنها بما فيها من مذاهب فكرية متصارعة، ونظم متباينة إنما تعود في جذورها إلى ثقافات قديمة وتطبيقات جديدة شقي بها الإنسان في ظل القوانين الوضعية المختلفة، يقول (الدوكس هكسلي): (إنَّ ألعالم – الآن – يشبه قبيلة تعبد الشيطان، وتعيش في ظل قوانين جديدة قائمة على الشر والحقد، والمادية البحتة، التي تجرد الإنسان من كل مشاعر الإنسان بلا حُبّ بلا تعاطف، وتقوم على تبادلات الاتصال الجنسي على نحو ما تفعل السائمة).
واعترف (جاك مارتيان) بأهمية الوحي في تنظيم حياة البشر، ودعا إلى الاعتراف بعجز الإنسان عن وضع النظم الكفيلة بإسعاده وإخراجه من الأزمة المعاصرة، يقول: (إنَّ أيَّ مجتمع بشري يحتاج إلى الإنسان نفسه، وإلا سيكون طرفاً وقاضياً في الوقت نفسه، إذن لابدَّ لكي يحتفظ المجتمع البشري باستقراره وخضوعه للسلطة السياسية، ومن وجود حقائق مطلقة يسلم بها الأفراد جميعاً).
وقال عالم القانون الشهير (جورج هوايت كروس باتون): (إنَّ السبيل الوحيد للوصول إلى معايير متفق عليها هو الاعتراف بالوحي السماوي قانوناً).
إنَّ هذه الأقوال تلتقي مع الرأي الذي يعول على الوحي والدين السماوي في قضية التشريع، وأنَّ البشرية من فجر تاريخها اعتمدت على الشريعة الإلهية: (فالحقيقة أن تنظيم الحياة البشرية هو من المفاتيح العليا المقدسة لهذه الحياة، ولم يكن الله سبحانه وتعالى ليترك الناس عرضة للخطأ فيها وللتجارب الأليمة، فإنه في كل مرة يعدل الناس عن نظام إلى آخر تقوم الثورات والحروب والنكبات، وتراق الدماء، وتصادر الأموال، وتضطرب الأمور، وينقسم الناس، ولذلك فقد أهدى الله هذه الهديَّة الغالية، وهي بيان نظم حياتهم).
ومن هنا يتضح (أنَّ الدين منذ القدم ضرورة اجتماعية، والوازع الديني أقوى حافز على احترام القواعد التنظيمية في أية جماعة؛ ومنذ وجدت الجماعات البشرية اتجهت إلى السمو عن طريق النزعات الدينية)، و(أنَّ الديانات السماوية بدأت منذ بدء الخليقة، فالله سبحانه وتعالى منذ استخلف آدم على الأرض أوحى إليه أنه هو خالقه وبارئه، وخالق العوالم الأخرى من إنس وجن وحيوان وموجودات، وخالق الكون كله، كما أوحى إليه بحدود خلافته وذريته في الأرض، وبالقدر اللازم لتنظيم حاجاتهم كجماعة بدائية)، فالدين بشطريه (العقيدة الشريعة) أتى الإنسانَ من عندا لله وظلَّ على عقيدة التوحيد وشريعة الرحمن إلى حين. ثمَّ اقتضت حكمة الله أن ينشب الصراع بين الجاهلية والإسلام، وكلما استحكمت الجاهلية أو كادت بعث الله رسولاً يعيد الناس إلى شريعة الله حتى جاء خاتم الأنبياء وسيد المرسلين بالهدي التام والشريعة الكاملة، فكان منة الله على الأمَّة الإسلامية، قال تعالى: (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم ءايته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)، ومما جاء في تفسيرها: (أنَّ الحكمة هي السنة، التي هي شقيقة القرآن، ووضع الأشياء موضعها، ومعرفة أسرار الشريعة، فجمع لهم بين تعليم الأحكام، وما به تنفيذ الأحكام، وما به تدرك فوائدها وثمراتها، ففاقوا بهذه الأمور العظيمة جميع المخلوقين وكانوا من العلماء الربانيين).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق